كيف نفهم ما يجري في أميركا؟

كيف نفهم ما يجري في أميركا؟

تنشر صحيفة يمنيز أوف أميركا في السطور التالية مقالا للدكتور عمار الشرفي، وهو يمني أميركي حاصل على الدكتوراة في القيادة التربوية مع التركيز على المناهج والتعليم. يتناول المقال العنصرية في أميركا وخلفياتها التاريخية.

كيف نفهم ما يجري في أميركا؟
يمنيز أوف أميركا- الدكتور عمار الشرفي

الكل يتابع و يترقب ما الذي سيحدث منذ أن اندلعت الإحتجاجات لمقتل المواطن الأمريكي الأسود جوج فلويد على يد شرطي في مينيابوليس بولاية مينيسوتا. لكن مع هذا الترقب و مع كثرة الزخم الإعلامي في القنوات و الإذاعات و وسائل التواصل الإجتماعي الذي تختلط فيه المعلومات و التحليلات، ينتاب الكثير من المتابعين الحيرة لعدم قدرة فهم ما يجري و بسبب اختلاط الحقائق بالمعلومات الزائفة و تنوع التحليلات التي عادة ما تعبر عن آراء أصحابها و توجهاتهم السياسية و العرقية و الدينية. لذلك سأحاول ولو مجرد محاولة لشرح ما يجري فقط بسرد الحقائق وربطها بعوامل تأريخية ذات صلة.

من الصعب للمتابع من خارج الولايات المتحدة أو المهاجرين الجدد، فهم مايجري. وحتى تتضح الصورة لهؤلاء يجب أن يعرفوا أن هذه الإحتجاجات ليست بجديدة على هذا البلد الذي شهد العديد من الأحداث المشابهة على مدى تأريخه القريب و البعيد. إن كل ما يجري هو واحد فقط من سلسلة طويلة جدا من الأحداث ولن يكون آخرها أيضا.

دعونا نعود إلى الوراء و إلى بداية وجود بلد أسمه الولايات المتحدة الأمريكية. من المعروف أنه منذ أن تأسست هذه الدولة كانت هناك تجارة مهمة للاقتصاد الأمريكي، ألى وهي تجارة العبيد. كان يتم جلب العبيد من أفريقيا عن طريق تجار أوروبيون يتعاملون مع مشائخ و ملوك أفارقة لجلب العبيد إلى العالم الجديد (أمريكا) للعمل في المزارع و لخدمة ملّاكهم حسبما تنبغي الحاجة دون مقابل أو أي أجر معلوم باعتبار أنهم ملك خاص يتبع صاحبهم الذي اشتراهم بثمن كبير. هذه الحالة ساعدت في جعل الإقتصاد الأمريكي بشكل عام و المزارعين على تحقيق نمو غير مسبوق. و لذلك عندما قرر إبراهيم لنكن إنهاء العبودية بسن قانون يمنح جميع العبيد الحرية الكاملة انتفض ملّاك العبيد الذي كان معظهم من الولايات الجنوبية و نشبت أكبر حرب في تأريخ هذا العالم الجديد، الحرب المدنية بين ولايات الشمال و ولايات الجنوب التي كانت تطالب بالإنفصال من أجل إستمرار العبودية التي تدر عليهم بأموال طائلة.

في نهاية المطاف و بعد مقتل مئات الآلاف من الجنود و المواطنيين الأمريكين انتصر الشمال و الحكومة الفيدرالية على ولايات الجنوب و تم تحرير جميع العبيد و أصبحت العبودية مخالفة للقانون الفيدرالي الأمريكي. كان ذلك في التاسع من أبريل ١٨٦٥، و لكن ما ينبغي ذكره أن العبودية انتهت و لكن التمييز العنصري لم ينتهي و خاصة في تلك الولايات الجنوبية التي حاربت للحفاظ عليها. لك أن تتخيل مئات الآلاف من العبيد الذي تم تحريرهم ولكن بالرغم أنهم أصبحوا أحرار لكنهم لايملكون شيئا. ليس لديهم بيوت تأويهم و لا حتى طعام يشبع جوعهم أو جوع أبنائهم. لذلك اضطروا للعمل في أي شيء من أجل لقمة العيش ولو عند ملّاكهم السابقين ولو بأجر بسيط لا يسمن ولا يغني من جوع.

استمرت معاناة السود بعد تحريرهم لعقود طويلة وكان هناك العديد من المواطنين الأمريكين البيض الذين وقفوا معهم ولكن كل تلك الجهود ضلت فردية ذات قدرات محدودة.

كذلك قامت العديد من الولايات الجنوبية بسن قوانين عنصرية مثل منع وجود السود في الأحياء والمدارس والمطاعم و المحلات التي يقطنها و يجوبها المواطنين البيض. كان الوضع مختلف تماما في الشمال حيث حرصت العديد من الولايات الشمالية على دمج السود في المجتمع، ولذلك هاجر العديد من السود الذين كانوا مستعبدين الى الشمال بينما حرص الكثير منهم على البقاء في الجنوب.

على مدى عقود من الزمن كان هناك العديد من النشطاء السود و البيض الذين عملوا على الضغط على الحكومة الفيدرالية لسن قوانين تمنع أو على الأقل تحد من العنصرية، و مع مرور الزمن تحقق الدمج حتى في الولايات الجنوبية وأصبح بإمكان السود العيش في الأحياء التي يقطنها البيض و الذهاب الى نفس المدارس على سبيل المثال لا الحصر. ولكن مع ذلك لم تنتهي العنصرية رغم أنها أصبحت مخالفة للقانون و مبغوضة من غالبية الشعب الأمريكي. لذلك حرصت العديد من الحكومات المحلية على الحد من قدرة السود على النمو والحصول على الفرص التي تخرجهم من دائرة الفقر لأسباب عدة ولكن معظمها كانت اقتصادية، فاستمر الفقر و العطالة و المشاكل الإجتماعية داخل المجتمعات الأفريقية وانتشرت الجريمة كنتيجة طبيعية فأصبح الخوف من السود هو المسيطر على عقول الناس حين يرون أو يتعاملون مع مواطن أسود. تعاملت الشرطة بحزم أو وحشية مع السود لدرجة انه أصبح كل مواطن اسود مشتبه فيه. كذلك قامت بعض المدن بسن قوانين تحد من قدرة السود على المشاركة في الإنتخابات و ذلك عن طريق سن قوانين تجعل من الصعب على غالبيتهم تقييد اسمائهم في سجل الناخبين مثل الزام ان يكون الناخب قادر على القراءة و الكتابة في حين كان الكثير منهم أميين نتيجة تأريخ طويل من العبودية التي عاشوها وكذلك عدم قدرتهم على الدراسة لأسباب اقتصادية.

ظهرت بعدها حركات تحررية عدة ونشأت أكبر تلك الحركات وهي حركة الحقوق المدنية(Civil Rights Movement)

و لعل من أشهر رواد تلك الحركة الدكتور مارتن لوثر كنج. كانت هذه الحركة تعتمد على المقاومة السلمية بينما كانت هناك حركات أخرى ترى أن الحل الوحيد هو في استخدام القوة ضد الحكومة و المجتمعات البيضاء في الجنوب التي تريد الحفاض على القوانين العنصرية، وكان من رواد هؤلاء مالكولم إكس.

لن أطيل في ذكر تفاصيل تلك الحركات لأن المجال لايسمح ولكن بإمكان أي شخص قراءة العديد من المراجع عنها لفهم ما يجري بشكل أكبر.

نتيجة لنشاط تلك الحركات قامت الحكومة الفيدرالية بسن عدة قوانين تعطي المواطنين السود حقوقا مساوية بل وفي بعض الأحيان منحهم فرص قد لا تأتي لزملائهم البيض كإعطاء نسبة من القبول في الجامعات للطلاب السود بغض النظر عن درجاتهم أو ترتيبهم في الثانوية، وذلك لمساعدة المجتمعات السوداء على النمو و تحقيق التطور من أجل الخروج من دائرة الفقر. كذلك تم تشجيع الشركات على توظيف السود مقابل إعفاءات ضريبية... الخ.

كل هذه القوانين كانت ايجابية ولكنها لم تكن كافية وخاصة في ظل النظام الأمريكي الرأسمالي البحت. كذلك استمرت العنصرية لدى أقلية هنا و هناك. لم يتم القضاء على الفقر و الجريمة في المجتمعات السوداء في هذا النظام الرأس مالي و سأذكر مثالا واحدا يوضح كيف أن الرأس مالية كانت عائقا أمام السود أو غيرهم من المجتمعات الفقيرة بشكل عام. من المعروف أن الخدمات في المدن و الأحياء تعتمد على الضرائب، ولذلك فإن الأحياء التي يسكنها البيض الذين يتمتعون بوضع مادي مريح بشكل عام ترى فيها المدراس ذات القدرات العالية والملاهي و خدمات النظافة و غيرها تتم بشكل راقي، وفي المقابل ترى المدراس و جميع الخدمات تفتقر للأساسيات في مجتمعات الفقراء التي عادة ما يتركز فيها السود و غيرهم ممن لا يملكون أعمالًا و مصادر دخل تساعدهم على دفع ضرائب تجلب لهم الخدمات.

نتيجة لذلك صعدت أجيال في تلك المجتمعات تعتمد على الجريمة و المخدرات لجلب المال و انتشرت العصابات ولذلك أصبحت تلك المجتمعات تشكل تهديدا للسلم الإجتماعي و أصبحت الشرطة تتعامل معهم بحزم و حذر. و للأسف بالغت العديد من مؤسسات الشرطة في ذلك الحزم مما أنتج نتيجة عكسية فأصبح الشرطي عدو بالنسبة للشباب الأسود وكان هنالك الكثير من الضحايا الأبرياء الذين ليس لهم أي علاقة بالجريمة ولكن مشكلتهم الوحيدة كانت بشرتهم السوداء التي جعلتهم محل شبهة في كل وقت و حين.

هناك العديد من الامثلة لهؤلاء الأبرياء الذين ماتوا على يد الشرطة التي تعاملت معهم بحزم مفرط.

لايمكنني هنا حصر جميع الضحايا ولكن من المهم التذكير أنه في معظم تلك الحالات وليس كلها كانت هناك مظاهرات و احتجاجات واسعة ضد طريقة تعامل الشرطة مع المواطنين السود وبإمكانك قراءة أمثلة من أهم تلك الإحتجاجات على هذا الرابط:

https://amp.smh.com.au/world/n...

لذلك من المهم معرفة أن الإحتجاجات التي تحصل حاليا بعد مقتل جورج فلويد ليست جديدة أو فريدة من نوعها و لكن ما يختلف هذه المرة أن طريقة القتل الوحشية تم توثيقها بالكاميرا و نحن نعيش حاليا في ثورة معلوماتية غير مسبوقة حيث تنتشر الأخبار و المشاهد عبر وسائل التواصل الإجتماعي بشكل سريع جدا لا يمكن التحكم فيه، سواء كانت هذه الأخبار و المشاهد حقيقية أم مزيفة. كذلك من المهم جدا ذكر العامل الرئيسي الكبير هذه المرة الذي يختلف عن كل تأريخ الإحتجاجات في أميركا ألا وهو الرئيس دانلد ترمب. هذا الرئيس المعروف بتصريحاته الشاذة التي غالبا ما تتطابق مع توجهات بعض الحركات و الرموز العنصرية في أمريكا، وهذا لم يحصل من قبل. كما أنه في كل مرة تحدث احتجاجات أو مشاكل اجتماعية في داخل الولايات يقوم كل رئيس بمخاطبة الشعب لتطمينهم و السعي إلى توحيد الشعب بينما يقوم ترمب بالعكس تماما حيث يخرج بتصريحات تزيد من الإحتقان والانقسام الداخلي. لذلك فأمريكا حاليا تفتقد الى القيادة الحكيمة والواعية التي يمكنها طمأنة الشعب و لملمة الجراح. أخيرا لا ننسى أننا في سنة انتخابات رئاسية مهمة و هناك رغبة واسعة و حماس غير مسبوق لدى جميع رواد الحركات المدنية و الحزب الديمقراطي لتحقيق هزيمة ساحقة لترمب و وضع رئيسا ديمقراطيا (جو بايدن) بديلا عنه. تغيير الرئيس في هذه الإنتخابات لم يعد مجرد منافسة حزبية بل هدف رئيسي مهم لدى النخب الأمريكية و المؤسسات المدنية من أجل الحفاظ على السلم الإجتماعي و العودة الى الحوار المجتمعي وربما العودة الى الوضع الطبيعي السابق و أصلاح كل ما قام ترمب بتخريبه خلال السنوات الأربع الماضية.

error: المحتوى محمي!!