المسلمون في فرنسا: كراهية ممنهجة أم سوء فهم؟
وجد المسلمون الفرنسيون أنفسهم، خلال الأسابيع الماضية، أسرى لنقاش سياسي وعقائدي مُستعر، حول حقوقهم، وحرياتهم، وقبل كلّ شيء، حول حياتهم اليومية كأفراد، في خضم معارك بين خطابين.
فمن جهة، يخشى البعض من سعي الدولة الفرنسية لإيجاد حلول جذرية للهجمات المتطرّفة المتتالية، عبر وضع المسلمين كافة على أراضيها، في سلّة واحدة، مع جماعات تستخدم العنف.
وقد تعزّز هذا الخوف أمس، بعد تعاطي الشرطة الفرنسية العنيف مع متظاهرين كانوا يحتجّون على قانون "الأمن الشامل" الذي تثير بعض بنوده القلق، لناحية تقييد الحريّات.
في المقابل، يرى البعض أنّ ردّ المسلمين الغاضب في أنحاء العالم بإعلان مقاطعة المنتجات الفرنسية، احتجاجاً على معالجة الدولة الفرنسية لإعادة نشر مجلّة "شارلي ايبدو" لرسومات ساخرة من النبي محمد، قد يُسهم في استخدام حقوق المسلمين في فرنسا كأداة في صراع سياسي.
وفي تقريره الصادر العام الحالي، يسجّل "التجمع ضدّ الإسلاموفوبيا" في فرنسا، ارتفاعاً بنسبة 77 بالمئة في الاعتداءات على خلفية كراهية دينية، على مسلمين، بين عامي 2017 و2019.
ورصد التجمّع سنة 2019، نحو 789 فعلاً يندرج تحت مظلّة كراهية المسلمين، يقول إنّ 59 بالمئة منها صدر عن مؤسسات حكومية.
هذا التجمّع أعلن قبل يومين عن حلّ نفسه، ونقل أنشطته إلى خارج فرنسا، بعد أن اتهمه وزير الداخلية جيرار دارمانان بأنّه "بؤرة إسلاميّة".
وأكثر ما يثير قلق الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان حالياً، هي الاعتقالات التي شهدتها عدّة مدن فرنسية، لعدد من تلاميذ المدارس، بتهمة "تبرير الإرهاب"، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
وقد داهمت الشرطة خلال الأسابيع الماضية بيوت قاصرين، للتحقيق معهم، وصادرت هواتف وكومبيوترات محمولة، واحتجزتهم لساعات، وطرحت عليهم أسئلة عن ممارسات عائلاتهم الدينية.
وجاء ذلك بعدما عبّر التلاميذ المعتقلون عن آراء صنّفت بـ"غير الملائمة"، حول مقتل أستاذ التاريخ صمويل باتي منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
يكفي طرح السؤال بشأن المستقبل على عدد من المسلمين في فرنسا والمتابعين للملف، لندرك أننا نحتاج لأكثر من رأي ومقاربة، لرسم مشهد أمين للواقع قدر الإمكان، بعيداً عن الدعاية والدعاية المضادة.
يرأس ياسر اللواتي "لجنة العدالة والحريات للجميع"، وتعنى بالدفاع عن حقوق المسلمين، ونشر التوعية حول الإسلاموفوبيا في فرنسا.
وبرأيه، فإنّ حدّة الانقسام بدأت تظهر مع صعود خطاب اليمين المتطرّف في فرنسا قبل سنوات، كردّ فعل على "اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي، وبروزهم للحديث علناً، من دون الفصل بين إسلامهم وجنسيّتهم الفرنسية".
والمشهد بالنسبة له انقسام بين فئتين: "فئة تريد من الدولة الفرنسية أن تمارس دوراً تسلّطياً، وفئة من الأقليات ترفض أن تبقى غير مرئية".
وبحسب اللواتي، فإنّ فرصة المحجبة لنيل وظيفة في فرنسا تقارب 1 بالمئة، كما أنّ 99 بالمئة من عنف الدولة، موجّه ضد المسلمين، ويزيد احتمال اعتقال الفرد بنسبة 30 بالمئة، إذا كان عربياً أو أسود.
ويقول: "بالنسبة لي، فرنسا لا تكون علمانية، إلا حين تستخدم هذه الحجة لمنع المسلمين من التواجد في الأماكن العامة. ومحرّك التطرّف الأول، هو شعور فئات واسعة من الشباب المولودين فرنسا، بأنّهم غرباء في بلدهم".
يضيف أنّ مسؤولية العنف لا تقع على عاتق المسلمين الفرنسيين، بل على عاتق فشل برامج مكافحة الإرهاب التي تنتهجها الدولة الفرنسية منذ سنوات، لأنّ "المسلمين هم ضحايا الإرهاب الأول، ولا يمكن محاربة التطرّف، عبر تغذية الإسلاموفوبيا".
يلحظ اللواتي في هذا السياق أنّ الاعلام الفرنسي يحكي عن المسلمين، ولا يحكي معهم، بل يستضيف شخصيات قريبة من وجهة النظر السائدة.
ويشير أيضاً إلى أنّ هناك "نفاقاً" في الدفاع عن حرية التعبير، وتصويرها للعالم بأنّها "مطلقة"، مشيراً إلى طرد رسام من "شارلي ايبدو" قبل سنوات لأنه سخر من ابن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي.
ويختم ياسر اللواتي بالقول: "عندما تحضر الإيديولوجيا يختفي العقل. برأيي، ما يحدث انتصار لمنطق اليمين المتطرّف، لأن مارين لوبين (رئيسة حزب الجبهة الوطنية)، صامتة".
تعيش الصحافية والمذيعة التلفزيونية اللبنانية ميسلون نصار في فرنسا منذ سنوات، وتقدّم برنامج "في فلك الممنوع" على شاشة قناة "فرانس 24".
وأثار برنامجها الذي يطرح مواضيع تصنّف في خانة المحرّمات، حفيظة بعض الأئمة في فرنسا، ودعوا لمقاطعة القناة. كما تتلقّى تهديدات مستمرّة من جهات إسلامية متطرفة في الداخل الفرنسي.
تقول ميسلون إنّ قلق الدولة الفرنسية من انفلات العنصر المتطرّف، يستند إلى واقع ملموس. كما أن السعي لوضع قوانين تنظّم الإسلام الفرنسي، أمر طبيعي، لأنّ "كلّ المؤسسات الدينية المسلمة من جمعيات ومصليات ومساجد، ملك لدول مثل تركيا، والكويت، وقطر، والسعودية، والجزائر والمغرب". فقوانين الدولة الفرنسية تمنعها من بناء دور عبادة.
برأيها، الأزمة الراهنة ليست جديدة، بل هي تعميق لأزمة قديمة، كانت "الدولة الفرنسية تظنها بعيدة عنها، طالما أنّها تحدث في الخارج، في سوريا أو العراق، الآن، اكتشفوا أنّها انتقلت إلى عقر دارهم. ومع تزايد عدد المسلمين في فرنسا (تشير تقديرات غير رسمية إلى أنّهم بلغوا 10 ملايين تقريباً)، من الطبيعي أن يتحوّل الأمر إلى ملف سياسي".
وترى نصار أنّ اختزال المشكلة في فرنسا بوجود مشاعر كراهية تجاه المسلمين، تبسيط لواقع شديد التعقيد. "هناك عناصر متداخلة، وليس صحيحاً أنّكِ إن كنت مسلمة في فرنسا، ستتعرضين بشكل تلقائي للعنصرية، المجتمع الفرنسي مثله مثل أي مجتمع، فيه عنصريون، وفيه غير عنصريين. والعنصري لا يمارس عنصريته على المسلم فقط، بل على العرب، وعلى السود، وعلى اليهود، فهي ليست موجهة ضدّ للمسلمين حصراً".
تقول نصار إنّ "الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أخطأ التعبير، وبالطبع كان مستفزاً لشريحة واسعة، ولكن ما تلى خطابه، كان حملة ممنهجة لتضخيم أقواله، من جهات ذات مرجعيات إخوانية، باتت قوية على الساحة الفرنسية".
وبرأي نصار فإنّ القانون الفرنسي يكفل لأي شخص حرية التعبير عن أي فكرة، حتى وإن كانت تتضمّن إهانة لأي دين، لكنه يعاقب الإساءة الموجهة لمعتنقي هذا الدين، أو ممارسة التمييز ضدهم.
تقول إنّه لا يمكن نفي وجود مشكلة في سوء إدارة الدولة الفرنسية للملف، ولكنها ضدّ حصر المسلمين في دور الضحيّة، لأن انعكاسات ذلك ستكون خطيرة، وسيكون أشبه بتنميط معاكس، يمارسه المسلمون على أنفسهم.
يشبّه الصحافي الجزائري المستقلّ خالد سيد مهند المشهد الحالي، بأنّه أشبه برواية لجورج أورويل، وقد بات على المسلمين توخي الحذر، لأن أي كلمة قد تفسّر ضدهم.
وبرأيه، فإنّ "حديث ماكرون عن الانفصالية مثير للضحك، لأن الدولة الفرنسية تعمل على عزل وإقصاء مناطق وضواحٍ وأحياء كاملة منذ سنوات، والآن تذكرت، أنّ تلك المناطق مهملة ومتروكة، وتريد دمجها".
يعيش خالد سيد مهند في فرنسا منذ طفولته، ويتذكّر مراهقته في أحد أحياء المهاجرين. "لمن لا يعرف هذه المناطق، فهي تعاني غالباً من مستوى بطالة مرتفع جداً، ومستوى تعليمي سيء في المدارس الحكومية، كما تنتشر تجارة المخدرات. وتتدخل الشرطة بشكل دائم في يوميات الناس هناك. حين كنت مراهقاً، كانت الشرطة تفتشني أربع مرات في اليوم، وذلك ما يحدث مع المراهقين العرب والسود حتى يومنا هذا".
يخبرنا أنّه لم يكن يستطيع استئجار بيت باسمه في باريس، من دون المرور بطرف ثالث، يكون فرنسياً أبيض، ليساعده في توقيع العقد. "من غير الصحيح أنّ المسلمين يريدون الانفصال، على العكس، هم معزولون، ويتعرضون لتمييز في السكن، وفي التوظيف، ولعنصرية ممنهجة".
ويقول إنّ ما تشهده فرنسا حالياً، هو إعادة تشفير للعنصرية المضادة للعرب، وتوجيهها إلى خطاب مناهض للمسلمين. وفي هذا السياق، يقول إنّ العلمانية هي الحجة الشبيهة "بورقة التوت" التي تخفي الدوافع العنصرية الحقيقية، بحسب تعبيره.
ويعطي مثالاً على ذلك قصة حدثت في مدرسة حكومية يعرفها، حيث تلقّن المعلّمات أغانٍ بلغات مختلفة للأطفال. وحين قررت مدرّسة تلقينهم أغنية بالعربية، احتجّ الأهل، وكان تبريرهم "أنّ فرنسا دولة علمانية". حاولت المدرسة أن توضح لهم أن الأغنية لا تتضمن أي محتوى ديني، لكنّ ذلك لم يفلح في تغيير رأيهم!
ويوضح خالد سيد مهند أن أكثر عمليات تجنيد المتطرفين تتمّ عبر الانترنت، وليس في المساجد. لذلك يجد أن ما تقوم به الشرطة منذ مدة لناحية مداهمة المساجد والجمعيات الدينية، يعزّز لدى شريحة من الشباب والأطفال شعوراً بالظلم.
ويشبّه رسوم "شارلي ايبدو" الساخرة من المسلمين، بالرسوم الساخرة التي كانت تنتشر في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، ساخرةً من اليهود. ويخشى أن تكون "عواقب التسامح مع العنصرية والكراهية تحت حجة حرية التعبير، وخيمة".
يقول الصحافي والكاتب المغربي المقيم في فرنسا جمال بدومة، إنّ ملف الأمن في فرنسا، وتحديداً في موضوع الإرهاب، قديم، لكنه أساسي لاستقطاب الناخبين، يستخدمه حزب ماكرون للمزايدة على اليمين المتطرّف.
ويوضح أنّ الدولة الفرنسية بسعيها لإقرار مشروع "قانون تعزيز العلمانية ومبادئ الجمهورية" - بات يعرف باسم قانون "الأمن الشامل" - مع ما يتضمّنه من بنود إشكالية، يمثّل خطراً على الحريات.
ومن تلك البنود منع تصوير الشرطة خلال أداء مهامها، وسحب الحقّ في الدراسة من داخل البيت.
يرى بدومة في ذلك محاولة "مواءمة صعبة بين سلامة المواطنين، وبين الحفاظ على الحريات الأساسية، وستكون الفئات الهشّة من مهاجرين ومسلمين الأكثر تضرراً بسببها، لأن هناك توجهاً انتقائياً للخلط بينهم وبين الإرهاب".
ويقول إنّه كمهاجر ولد في المغرب، وانتقل للعيش في فرنسا خلال فترة الدراسة الجامعية، قد يكون قادراً على رؤية "الجوانب الإيجابية في المنظومة الفرنسية، أكثر من المسلم المولود في فرنسا". والسبب أنّ البلاد لطالما عانت "من مشكلة في العدالة الاجتماعية تجاه الفئات المهمشة، ولم تحسمها بعد".
ويرى بدومة إن "تنظيم المساجد وتحريرها من النفوذ الخارجي، يعد محطة أساسية لمراقبة التطرّف، بالنسبة للدولة الفرنسية، إلى جانب العمل على تكوين أئمة فرنسيين". ويشير إلى أنّ الارباك الحالي، ناتج عن كون الإسلام ديانة جديدة، لم يلحظها قانون علمانية الجمهورية الصادر عام 1905، حين كان الفرنسيون بمعظمهم مسيحيين أو يهود فقط.
وبقول إن خطاب ماكرون أُسيء فهمه، فهو لا يريد مهاجمة الإسلام، ولم يكن يتوجه في كلامه إلى كلّ المسلمين في العالم، بل إلى المسلمين داخل فرنسا. "يريد ماكرون أن يكون الإسلام الفرنسي شأناً داخلياً، لأنّ فرنسا كدولة من حقها تنظيم الأديان على أراضيها بحسب قوانين فرنسية".
بالنسبة لبدومة فإنّ "القوانين الفرنسية تضمن حرية الاعتقاد للجميع، في الحيز الخاص، لكن الحيز العام مختلف، ولا يمكن لأي دين أن يكون أعلى من قوانين الجمهورية المطبقة على الجميع".
وبرأيه فإن الحديث عن إسلاموفوبيا ممنهجة تضخيم للواقع. "ربما حين يكون الجوّ مشحوناً، يشعر البعض أنهم مستهدفون ومستضعفون. ولكن، يجب الاعتراف أنّ هناك مشكلة حقيقية وأنّ فرنسا تدفع فاتورة باهظة في موضوع التطرّف".
سناء الخوري - بي بي سي عربي